كَيفَ دَخَلَ « العَسكَر » في صِرَاعَ السُّلطة بالسودان


في يونيو 2021، نشرتُ في صحيفة «التيار» سلسلة تحقيقات استقصائية بعنوان: “الجيش والسياسة.. كيف دخل العسكر في صراع السلطة بالسودان؟”، سعيتُ من خلالها إلى تحليل واحدة من أعقد قضايا تاريخنا المعاصر: كيف أصبح الجيش طرفًا أصيلًا في معادلة الحكم؟ ومن المسؤول عن إدخاله هذا المضمار؟
وقد شكّلت تلك السلسلة النواة الأولى لكتاب توثيقي وتحليلي بالعنوان نفسه، ما يزال قيد الإعداد.
وفي هذه المقالات، أقدّم مقتطفات منتقاة من فصوله، تستعرض لحظات مفصلية في علاقة الجيش بالسياسة.
انقلاب 30 يونيو 1989
بعد أن تناولنا في الحلقات الماضية انقلاب 17 نوفمبر 1958، ثم انقلاب مايو 1969 وما تلاهما من تحولات، نصل في هذه الحلقة إلى لحظة مفصلية: انقلاب 30 يونيو 1989، الذي دشّن مرحلة طويلة من الحكم العسكري المؤدلج، غيّرت وجه السودان لعقود.
ساعة الصفر: ليلة الانقلاب في الخرطوم
في تلك الليلة الخانقة من يونيو، كانت الخرطوم تستعد ليوم عادي. لكن شيئًا ما كان يتحرّك في الخفاء.
أُغلقت المحال التجارية مبكرًا على غير العادة، وتناهى إلى سكان أطراف المدينة دويّ مكتوم لمحركات ثقيلة.
في حيّ الصحافة، كان الحاج عبد الله، موظف البريد، يتحسس تردد إذاعة أم درمان التي اختفى صوتها فجأة.
وفي العباسية بأم درمان، كانت أم محمد تُعدّ الفطور حين انقطع التيار الكهربائي ثم عاد متذبذبًا.
وفي شارع الجمهورية، شاهد عمال المخابز عربات عسكرية تمرّ مسرعة نحو قلب المدينة.
مع بزوغ الفجر، راح الناس يتساءلون عن غياب الحافلات، والهمس يشيع: “فيه انقلاب!”
العيون معلّقة بالعتمة، والقلوب تترقّب
في الساعات الأولى من صباح 30 يونيو 1989، كانت الخرطوم تغطّ في هدوء ثقيل، لا يقطعه سوى خرير المكيفات ونباح الكلاب البعيدة.
فجأة، دوّى في الأثير صوت الموسيقى العسكرية عبر إذاعة أم درمان—مارشات صارمة، تتبعها “الجلالات” بإيقاع جنود يهتفون بخشونة، كأن الأرض نفسها تُقرع تحت أقدامهم.
هرع الناس إلى أجهزة الراديو، والأنفاس محبوسة في انتظار البيان الأول.